من الدفاع إلى الحرب .. انكشاف العقلية الأميركية في عهد ترامب

د . مهدي مبارك عبد الله
لم يعد العالم بحاجة إلى الكثير من الأدلة ليدرك أن الولايات المتحدة لا ترى في السلم إلا هدنة مؤقتة ولا في الدفاع إلا غطاءً للهيمنة فحين أن يعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب صراحة عزمه تغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب فذلك يعني أن واشنطن قررت أن تخلع آخر أقنعتها وتواجه العالم بلا تجميل ولا خداع في لحظة فارقة تكشف طبيعة عقلية ترامب وحقيقة المشروع الأميركي برمته الذي يقدس القوة ويستحضر الحروب كقدر محتوم لا مفر منه حين تصبح الحرب هوية
القرار الرئاسي المقترح لم يكن مجرد تعديل بروتوكولي عابر بل كان إعلاناً صريحاً عن عودة الإمبراطورية الأمريكية إلى جذورها الأولى حين كان السلاح هو اللغة الوحيدة والسيطرة هي الغاية الكبرى حيث أعاد ترامب اخيرا تعريف المؤسسة العسكرية الأمريكية ليس كأداة دفاعية بل كذراع حرب وغزو وتهديد دائم يطل على كل قارات العالم بوجهه القبيح
هذه الخطوة المفاجئة تعكس بكل تفاصيلها عقلية ترامب القائمة على القوة العارية فهو لا يرى في السياسة سوى امتداد للحرب لكن بوسائل أخرى ولعل أكثر ما يثير القلق في هذه التسمية انها ليست مجرد شعار بل إشارة إلى استعداد إدارة ترامب للدخول في مواجهات عسكرية أوسع حيث عرف عنه منذ توليه الحكم نزعة متكررة لاستخدام لغة التهديد سواء مع إيران أو كوريا الشمالية او فنزويلا أو حتى مع الحلفاء الأوروبيين والآن جاء هذا القرار ليؤكد أن الرئيس الأمريكي لم يكن يتحدث عن حماية ذاتية بل عن حرب حقيقية بالمعنى الحرفي للكلمة
القادة العسكريون الامريكيون تلقوا الخبر بارتباك شديد فمن جهة لا يستطيعون إنكار أن الولايات المتحدة تخوض بالفعل حروباً مفتوحة أو مستترة في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا لكنهم يدركون أن الاعتراف العلني بأنهم وزارة حرب يعري واشنطن أمام العالم مكشوفة وتبدو كقوة عدوانية طاغية لا تعرف سوى لغة التعديد والسلاح وهذا ما قد يفتح الباب أمام موجة رفض دولي تعزل أمريكا وتفقدها شرعية طالما تسترت وراءها باسم الدفاع عن الحرية وحقوق الانسان والديمقراطية
اللافت في الامر أن العديد من الرؤساء الأمريكيين السابقين على اختلاف انتماءاتهم خاضوا حروباً دامية في فيتنام والعراق وأفغانستان غير أنهم تمسكوا باسم وزارة الدفاع باعتباره غطاءً سياسياً وأخلاقياً يخفف من صورة الهيمنة ويضفي صبغة مشروعة على تدخلاتهم لكن ترامب خرج عن هذا التقليد مفضلاً المكاشفة العدوانية التي تترجم ذهنية الرجل الملاكم والتاجر النزق الذي لا يؤمن إلا بلغة القوة والصفقات وهو يتعامل مع الجيش الأمريكي كما لو كان فيلق ميليشيا ضخمة تعمل في خدمة مصالحه الانتخابية والشخصية ويدير من خلالها جنونه ونزوانه
الأخطر في مضمون القرار أنه يعيد الولايات المتحدة إلى خطاب ما قبل عام 1947 حين كانت تسمى رسمياً وزارة الحرب وهو الخطاب الذي طواه التاريخ بعد أن أدركت واشنطن أنها مطالبة دوليا بتقديم نفسها كقوة قائدة للنظام العالمي لا كإمبراطورية غزو لكن ترامب بنزعته الشعبوية أعاد عقارب الساعة إلى الوراء وكأنه يعلن أن أمريكا لم تعد تسعى لقيادة العالم بل لابتلاعه والقوة والسيطرة والاحتلال
على المستوى الدولي شكل قرار ترامب صدمة لحلفاء امريكا في أوروبا وحلف شمال الأطلسي الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة علنية مع عقلية أمريكية جديدة لا تتحدث عن الشراكة والأمن الجماعي بل عن الحرب الدائمة هذه الصدمة قد تسرع من نزعة المطالبة بالاستقلال الأوروبي عن واشنطن وتعزز دعوات قادة كبار مثل ماكرون لإنشاء جيش أوروبي مستقل وهو ما يعني أن حلف الناتو نفسه بات على المحك في ظل رئيس أمريكي يصر على أن بلاده ليست درعاً للحلفاء بل سيفاً مسلطاً على رقاب العالم اجمع
أما في الداخل الأمريكي فقد أثار القرار انقساماً حاداً بين مؤيديه ورافضيه فبينما رحب به جزء من القاعدة الشعبوية التي ترى في صراحة ترامب عنوان قوة فيما اعتبره خبراء أمنيون وسياسيون بمثابة انتحار سياسي وأخلاقي يفضح الوجه العدواني للولايات المتحدة أمام العالم ويقوض صورة الجيش الامريكي كمؤسسة وطنية تدافع عن الشعب لا كآلة حرب بيد رئيس متهور ومعظم استطلاعات اكدت مبكرا أن قطاعات واسعة من المجتمع الامريكي المدني والأكاديمي تنظر بعين الريبة إلى القرار باعتباره مقدمة لمغامرات عسكرية جديدة تدفع ثمنها دماء الأمريكيين واقتصادهم وامنهم
البعد الاقتصادي لا يقل خطورة عن الاستراتيجي إذ أن إعادة إحياء وزارة الحرب يصب في مصلحة المجمع الصناعي العسكري الذي يشكل أحد أقوى مراكز النفوذ في الولايات المتحدة فالتسمية الجديدة قد تفتح الباب واسعاً أمام تضخيم ميزانيات التسلح وإبرام صفقات سلاح ضخمة مع الحلفاء بحجة الاستعداد للحرب الدائمة ما يعني أن شركات السلاح ستجني أرباحاً فلكية متزايدة على حساب دافعي الضرائب الأمريكيين
قانونياً يطرح القرار جدلاً دستورياً حول حدود صلاحيات الرئيس فهل يحق لترامب أن يعيد تسمية مؤسسة بهذا الحجم دون الرجوع إلى الكونغرس او كبار قادة الجيش قبل اعلان القرار سيما وانه رجل غير عسكري بالمطلق وهل يملك ترامب الحق المنفرد في رسم هوية مؤسسة تعتبر اهم عصب في الدولة مثل هذا التساؤل قد يشعل أزمة داخلية جديدة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية ويضع مستقبل القرار نفسه أمام تحديات قانونية عميقة
إعلامياً انقسمت تغطية الخبر بين قنوات محافظة باركت القرار واعتبرته شجاعة وصراحة تعكس قوة أمريكا وبين صحف ومؤسسات ليبرالية هاجمته بشدة بوصفه خطوة متهورة تعزل واشنطن عن العالم وتفضح حقيقتها كإمبراطورية حرب وهذا الانقسام الإعلامي يعكس صورة الانقسام الأمريكي نفسه بين من يرى القوة في العنف اساس وضرورة ومن يرى فيها تهديداً للهوية الأمريكية الديمقراطية
اما في البعد الانساني الأخلاقي فالتسمية الجديدة لا تعني سوى استدعاء ذكريات أليمة للشعوب التي دفعت ثمن التدخلات الأمريكية في العراق وأفغانستان وليبيا وغيرها من مناطق العالم حيث تحولت وعود ” الدفاع عن الحرية ” إلى كوارث دموية وهو ما يجعل القرار بمثابة جرح مفتوح يذكر ذوي الضحايا بأن واشنطن لم تكن يوماً قوة دفاع بل آلة حرب اجرامية علانية وخفية
التاريخ يعود شاهداً بدوره على المفارقة الصارخة ففي 1947 غيرت واشنطن اسم وزارة الحرب إلى وزارة الدفاع في إطار سياسة خارجية جديدة أرادت تقديم نفسها عبرها كحامية للنظام الدولي الناشئ بعد الحرب العالمية الثانية أما اليوم فيأتي ترامب ليعيد عجلة التاريخ إلى الوراء معلناً بلا مواربة أن الولايات المتحدة تفتخر بأن تكون قوة حرب ابدية في وقت يتطلع فيه العالم إلى السلم والامن والاستقرار
اذا مع هذا القرار يبدو المستقبل أكثر غموض وخطورة إذ أن إقرار هذا التغيير قد يدفع العالم إلى سباق تسلح جديد ويعزز من ظهور تحالفات مضادة للولايات المتحدة من روسيا إلى الصين وربما أوروبا ذاتها وهو ما ينذر بمرحلة اضطراب عالمي قد يعيد أجواء الحرب الباردة الى الصدارة ولكن بأدوات أكثر فتكاً ودماراً بعدما ثبت للعالم أن حروب واشنطن المتكررة لم تكن دفاعاً عن أحد بل مشاريع غزو ونهب منظم
بموازاة هذا التغيير الجذري تتصاعد الأسئلة الملحة هل يخطط ترامب فعلاً لشن حروب جديدة واحتلال مناطق أخرى تحت راية وزارة الحرب وهل يعني ذلك أن الولايات المتحدة ستتحول من دولة تزعم حماية الأمن الدولي إلى دولة تقنن الحروب كخيار وحيد لسياستها الخارجية وهل يدرك الأمريكيون أن رئيسهم يجرهم إلى هاوية صراعات لا تنتهي ستستنزف اقتصادهم وتعمق عزلتهم عن العالم
هذا القرار شكل صفعة كبرى للنظام الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية فواشنطن التي كانت تقدم نفسها ضامناً للسلم العالمي عبر الأمم المتحدة وحلف الأطلسي صارت الآن في عهد ترامب تفتخر بنفسها كقوة حرب علنية وهذا بحد ذاته تحول استراتيجي خطير يفتح أبواب المستقبل على احتمالات صدام وخراب لا أحد يعرف إلى ما هو مداها والى أين سينتهي
ما قام به ترامب ليس مجرد تبديل في العناوين بل هو انعطافه تاريخية تعلن سقوط كل الأقنعة التي غطت المشروع الأميركي لعقود طويلة كما تؤكد بأن القوة الغاشمة اضحت العقيدة الرسمية لواشنطن وإذا لم يتحرك المجتمع الدولي سريعاً لوقف هذه النزعة المتهورة فإن العالم سيقبل على عصر جديد من الفوضى والحروب حيث يصبح منطق القوة فوق القانون ولغة الحرب فوق السلام وحينها لن يكون الثمن الذي سيدفعه العالم بأسره أقل من مستقبل البشرية ذاتها
في الختام : لا بد من التحذير بأن العالم يقف اليوم أمام منعطف خطير فشموخ أفكار الحرب وغوغائية الاستراتيجيات التي يتبناها ترامب ليست مجرد نزوة سياسية بل هي تهديد مباشر للسلم الدولي وإذا استمر هذا النهج فإن التاريخ قد يعيد نفسه بصورة أشد دموية ويجد العالم نفسه أمام حروب مدمرة لا تبقي ولا تذر ولهذا على المجتمع الدولي أن يتعامل مع هذا التحول بجدية قصوى قبل أن يتحول الاعتراف الأمريكي بالحرب إلى حرب فعلية تلتهم حاضر الإنسانية ومستقبلها