“العنوسة” هل يعدها المجتمع العربي وصمة إلى الآن؟

يتطور العالم من حولنا لحظة بعد الأخرى، بينما لا تزال بعض القناعات العربية راسخة في نفوس أهلها، فهل لا يزال وصف “العنوسة” بهذه المجتمعات يعد وصمة، أم أن تغيُر مفهومه لدى الشباب أثر بشكل أو بآخر في أعراف المجتمع وسط المتغيرات المتلاحقة التي تصيب كل شيء.

مهما يكن الأمر، فإن ثمة إجماعاً لدى الجميع أن الظروف الاقتصادية والبطالة سبب رئيس في هذه الظاهرة، إضافة إلى تغير الأولويات لدى الجنسين وسط ارتفاع معدلات الطلاق عربياً. “اندبندنت عربية” تناقش الظاهرة في عدد من الدول العربية، وترصد طبيعتها وأسبابها.

الزواج لم يعد من أولويات شباب تونس

تعتبر العنوسة لدى الرجال من المواضيع المسكوت عنها في تونس على الرغم من استفحالها، إذ كشف آخر الإحصاءات أن عددهم أكبر من عدد العانسات بنسبة قاربت الـ 56 في المئة، من 15 سنة فما فوق، ونسبتهم 52 في المئة من مجموع السكان، فيما تقارب نسبة العانسات 48 في المئة. كما تحتل البلاد بحسب دراسات علمية المركز الرابع دولياً في هذا الأمر.

لم يعد أيمن (48 عاماً)، الموظف في إحدى الشركات الخاصة، يؤمن بالزواج الذي وصفه بالمؤسسة “الفاشلة”. مضيفاً، “أحبذ العيش مع من أحب برضى الطرفين، من دون قيود ومسؤوليات تفسد علينا حياتنا”.

ويوضح مراد (40 عاماً) عاطل من العمل، “تخرجت في الجامعة في سن الـ 26، واشتغلت في مهن لا علاقة لها بتخصصي، وأنا اليوم لا أستطيع الزواج وبناء أسرة لأن دخلي لا يسمح بذلك”.

ترى لبنى (35 عاماً) وهي مهندسة معمارية، أنها لا تشعر بالعنوسة، ونجاحها في العمل اليوم من أولوياتها، لكنها من جهة أخرى تعتقد أن “الزواج في حد ذاته ليس هدفاً، وطموحها إيجاد الزوج المناسب الذي يمكن أن تواصل معه حياتها وتنجب منه أطفالاً”.

وفي دراسة لـ”3CEtud”، وهي شركة إحصاء خاصة، تناولت الأسباب الكامنة وراء ارتفاع نسبة العزوبية في تونس، تبّين أن مدة الدراسة وصعوبة العثور على عمل وارتفاع تكاليف الزواج وسعي بعض الشباب إلى الحفاظ على استقلاليتهم، مع سهولة العلاقات الحميمية خارج الزواج، تشكل أهم العوامل.

تغير العقليات

في هذا الصدد تقول عضو اتحاد المرأة التونسية، دارين خليفة، “إن سن الزواج في تونس يمتد من سن 25 عند انتهاء المشوار الأكاديمي وحتى الـ 35، حتى الحصول على وظيفة إذا وجدت”.

وأرجعت أسباب تأخر الزواج في بلدها إلى “تغيّر عقلية المرأة التي أصبحت تبحث أكثر عن استقلاليتها المادية من خلال إتمام دراستها وضمان فرصة عمل”. وتضيف، “أن الزواج لم يعد ضمن أولويات الشاب أو الشابة، على الرغم من أن الرغبة في بناء أسرة لا تزال قائمة”.

ويرجع بعض الخبراء تفشي الظاهرة إلى ضعف الإمكانات المادية وتدهور القدرة الشرائية، في ظل ارتفاع كلفة الزواج التي تتجاوز 5 آلاف دولار، كحد أدنى من دون احتساب السكن.

في حين تعتبر فئة أخرى أن غياب الالتزام بالقواعد الأسرية والضوابط الاجتماعية، أحد أهم الأسباب التي جعلت الشباب التونسي يرفض الزواج أو يهابه.

في المقابل، يجمع علماء النفس والاجتماع على أن الجنس هو المحرك الأساس في عملية الزواج. وتغير نظرة المجتمع تدريجياً نحو ممارسته خارج هذا الإطار، إذ لم يعد من الممنوعات أو المحاذير، مما ساهم في الهرب من علاقاته الرسمية. وبحسب دراسة أعدها الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري في تونس، فإن 75 في المئة من الشباب بين 15 و25 سنة مارسوا الجنس خارج إطار الزواج.

“توقع الفشل” يؤخر الزواج في الجزائر

لعُقود مضت، رضخ الزواج في الجزائر لعادات المجتمع وتقاليده التي حددت أعماراً مضبوطة لمغادرة الفتاة بيت أهلها في متوسط العشرين، من دون النظر إلى أعمار الجنس الآخر، حتى وإن كان متزوجاً أو شيخاً بأحفاده، بناء على معتقد سائد بأن “الفتاة تخرج مرتين، الأولى إلى دار الزوجية والثانية إلى قبرها”. ولا يزال ذلك سارياً في بعض المناطق النائية البعيدة عن صخب المدينة وضوضائها.

في العقد الماضي، أفلت هذا الملف من مخالب المجتمع على مضض، وانتقل إلى سلوكيات فردية رفعت شعار الدفاع عن خياراتها في الحياة وإعادة ترتيب سلم الأولويات، الذي يشمل الدراسة والولوج إلى سوق العمل قبل تبني الخطوة الثالثة وهي الزواج، بعد أن يتوافق الشريك مع خيارات شريكته، ويستسيغ طموحاتها وأهدافها المهنية والعلمية.

خطوط وشروط

هذه الخطوط التي رسمتها النساء، يعتبرها الرجال شروطاً، ولا يتقبلها كثيرون منهم بداعي أنها تتماشى مع عقلية المجتمعات الغربية التي تدافع وهماً عن حقوق المرأة وفق اعتقادهم، وتقودهن إلى التمرد على عادات مجتمعهن المحافظ وتقاليده، فكانت النتيجة عزوف الرجال وعنوسة النساء، وإن كان العزوف بات يشمل الفتيات أيضاً.

انفتاح الجيل الجديد من الشباب وإعادة ترتيب أولوياتهم لا يجعلهم في منأى عن نظرة المجتمع التي تجلد النساء اللواتي فاق سنهن الـ 30 ولم يتزوجن. فالانتقادات تلاحقهن من كل مكان، ويتعرضن للعنف اللفظي والمعنوي والسبب أنهن عوانس، أو كما يفضل المجتمع تسميتهم بـ “البايرات”، وهي كلمة قاسية جداً.

تمارس بعض العائلات ضغوطاً رهيبة على بناتهن بسبب نظرات محيطهن الحارقة، التي ترى في المرأة غير المتزوجة كأنها ناقصة بحاجة إلى رجل حتى تحظى بالتقدير. ويتسبب هذا الواقع المرير في عزلة فتيات عن أسرهن، فتقررن عدم حضور الحفلات واللقاءات العائلية تجنباً للسؤال المتكرر “ماذا تنتظرين للزواج؟”، تقول الشابة مريم من ولاية وهران غرب الجزائر.

في المقابل، ترى حكيمة، من الجزائر العاصمة، أن “الزواج في مجتمعنا له موانعه”، ذاكرة اثنين منها، “أولهما مادي بحكم انعدام السكن المنفرد الذي بات يشبه شرطاً للجنسين تجنباً للمشكلات العائلية، ولأن البلد عموماً يعاني سياسة إسكان فاشلة، فلم نصل إلى مرحلة حق الشاب في السكن لأن السلطات العامة لا تزال تمنح الأولوية لسكان القصدير”.

المشكلة الثانية معنوية، إذ يعود تأخر الشباب في الزواج إلى ارتفاع نسبة الطلاق والخوف من تكرار التجربة الفاشلة نفسها، يضاف إليها تراجع سن الرشد لدى الإناث والذكور على حد سواء. ففي وقت سابق كان سن الـ 18 المناسب لتحمل مسؤولية تكوين أسرة، أما اليوم فبات يصنف في خانة المراهقة فعلياً. تضيف، “أعتقد أن نظرة المجتمع إلى الزواج تتغير تدريجياً، فبعدما كان الأمر بمثابة الإلزام، باتت لكثرة الطلاق مبررات لكل فرد يتأخر في الزواج”.

أسباب متشعبة

تبدو أسباب العنوسة والعزوف عدة ومتشعبة، إذ ترتبط بعدم استعداد الطرفين لبناء أسرة، إضافة إلى الاستناد لنماذج فاشلة من سوء الاختيار. فالرجل يرى الشكل الخارجي ويبني عليه تصوراته واعتقاداته، أما الفتاة فتنظر إلى الجانب المادي وفق الشباب، إضافة إلى عدم تحمل الأول المسؤولية مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت تمنح لهما فرصة “الاستئناس الافتراضي” وهي ظاهرة تتفاقم.

ويطلق مصطلح “عانس” على الجنسين، لكنه في المجتمع الجزائري، تقول أستاذة علم النفس الاجتماعي رقية منحور، “استثنى الرجل لأسباب اجتماعية وعادات وتقاليد تنظر بدونية إلى المرأة، مع أن التأخر في الزواج يُحدث اضطرابات نفسية للرجل كما المرأة”.

وتفسر تأخر الزواج اقتصادياً بسبب تكاليفه الباهظة، ما يُسبب للرجل نوبات الخوف من التقدم إلى خطبة فتاة، ويتوقع في مخيلته الفشل بالنظر للتحولات المجتمعية التي تفصح عن أرقام كبيرة للطلاق، إذ تكشف إحصاءات رسمية عن تسجيل أكثر من 68 ألف حالة سنوياً في البلاد، بمعدل حالة كل ثماني دقائق.

تضيف، “حاجة الرجل إلى الزواج وتكوين أسرة هي نفسها للمرأة، لكن هناك أسباباً أخرى لعزوف أو عنوسة الرجل أهمها التقدم في السن بشكل يجعله يتخوف من عدم الإنجاب”.

بناء على هذا المعطى، فإن التغيرات والتحولات الاجتماعية والاقتصادية تعد من أسباب العزوف لدى الرجال التي يعرفها المجتمع الجزائري عموماً، كما أن خروج المرأة إلى العمل واستقلاليتها تخيف الرجال أكثر. في حين يتحجج البعض، وفق منحور، “بعدم العثور على المرأة المناسبة، لكن هناك قطاعاً واسعاً يبحث عن امرأة ترضيه وترضي عائلته تجنباً للمشكلات”.

بعيداً من المصطلحات، فإن الواقع يشير إلى أن الارتفاع المستمر في نسبة العنوسة التي لم تعد حكراً على النساء، من شأنه أن يهدد بنية المجتمع وتماسكه نتيجة الآثار المترتبة عنه.

التعليم والبطالة يؤخران الزواج في المغرب

حتى أواخر القرن الـ 20، كانت ولا تزال تنعت المغربية التي بلغت الثلاثينيات من عمرها ولم تتزوج بعد بـ”العانس”، في وقت كان معدل سن الزواج عند البنات هو العشرينيات. لكن مع التطور الذي عرفته مناحي الحياة، عبر تمسك عدد من النساء باستكمال تعليمهن، وإصرار بعضهن على متابعة الدراسات العليا، إضافة إلى الارتفاع الكبير في نسب البطالة، بخاصة عند الرجال، اتجه معدل سن الزواج إلى الارتفاع ومعه زادت نسبة العنوسة في المجتمع المغربي، في حين تغيرت النظرة العامة إلى المسألة، وأصبح وجود رجل وامرأة من دون ارتباط، شبه عادي.

تعتبر ثورية (48 عاماً) أن هناك مجموعة من العوامل التي حالت دون زواجها، بينها غياب عدد من القيم في المجتمع، وتدني مستوى الأخلاق بشكل عام، وبالتالي أصبح الزواج غير مبني على المودة بل على البراغماتية، الأمر الذي يتسبب في مشكلات تجعل المرء يعيد كل حساباته بخصوص مؤسسة الزواج، وبالتالي ربما العزوف عنها.

وتؤكد أن بعضاً ممن تقدموا لخطبتها كانوا إما عاطلين أو يشتغلون في أعمال ذات دخل محدود، لكن الحياة أصبحت تتطلب مصاريف يصعب على أصحاب المدخول القليل تحملها، وبالتالي اختارت العيش من دون زواج مخافة عدم القدرة على تلبية حاجات عائلة بكاملها.

إحصاءات

ارتفع أخيراً متوسط عمر الزواج لدى المغاربة من الجنسين بنحو ثماني سنوات، إذ كان خلال فترة الاستقلال في خمسينيات القرن الماضي يناهز 17 عاماً بالنسبة إلى النساء، و24 عاماً للرجال. لكن عام 2018، بلغ 31.9 عاماً عند الرجال و25.5 عند النساء، وفق إحصاءات المندوبية السامية للتخطيط، التي أرجعت السبب إلى الانتقال من ثقافة الزواج المبكر إلى الزواج المتأخر في الوسطين الحضري والقروي، بشكل متزامن مع وجود نسبة أكبر في الأول.

وسجلت أعلى مستويات العزوبية لدى الإناث عام 2014، بنسبة وصلت إلى  24 في المئة ممن تتراوح أعمارهن بين 30 و34 عاماً، إضافة إلى أن العزوبة المزمنة أصبحت تهدد 11 في المئة من النساء اللاتي تتراوح أعمارهن بين 45 و49 عاماً. وبلغ متوسط عمر الزواج آنذاك 31.3 عاماً عند الرجال، و25.7 عاماً لدى النساء.

استكمال التعليم

تصر كثير من المغربيات على استكمال تعليمهن، بما في ذلك التعليم العالي، الذي يتطلب نحو ثماني سنوات من الدراسة بعد نيل شهادة الثانوية العامة، وهو ما أثر بدوره في تأخر سن الزواج لديهن.

تؤكد رشيدة (50 عاماً)، وهي طبيبة، أن إصرارها على استكمال دراستها في مجال الطب، مع احتمال عدم تمكنها من الزواج، لم يمنعانها من العدول عن حلمها المهني، معتبرة أن عدم زواجها يعود إلى رفضها بعض العروض التي يغيب فيها شرط التكافؤ الاجتماعي والثقافي، مشيرة إلى المثل الفرنسي “أن تكون وحيداً خير من أن تكون رفيقاً لشخص غير لائق”.

قلة فرص العمل

من بين الأسباب الأساسية لتأخر الزواج أو عدم حصوله في المطلق، الارتفاع الكبير في نسب البطالة عند الشباب في المغرب خلال السنوات الماضية.

تساءل محمد (48 عاماً)، كيف له أن يتزوج وهو عاطل، مؤكداً أنه يتكل في مصاريفه اليومية على والديه، “فهل أتزوج وأنجب أطفالاً وأكوّن أسرة لكي يعيلها والداي أيضاً؟”.

وصلت نسبة البطالة في المغرب إلى 10.5 في المئة من إجمالي القوى العاملة، خلال الربع الأول من عام 2020، إذ زاد عدد العاطلين من العمل بمقدار 208 آلاف فرد مقارنة بالعام الماضي، وفق إحصاءات مندوبية التخطيط. ووصل إجمالي عدد العاطلين في نهاية مارس (آذار) الماضي إلى 1.292 مليون فرد، بعد أن كان في حدود 1.084 مليون في الربع الأول من عام 2019.

وبلغت البطالة عند الإناث 14.3 في المئة، مقابل 9.3 في المئة عند الذكور، فيما ظلت النسبة لدى حاملي الشهادات الجامعية 17.8 في المئة، بينما لم تحصل كل ست من بين عشرة، على أية فرصة عمل في المطلق.

 

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى