لارا مصطفى صالح تكتب : “شو هالقهر يا الله”

 لارا  مصطفى  صالح –  بعد سنوات طويلة، وأمام جسر الملك حسين، تذكرت ذلك النهار، الذي أخذني فيه جدي أبو الأنيس إلى قريتي لفتا للتعرف على ما كان يوما بيتا للعائلة! كانت البيوت آنذاك متناثرة كحبات زيتون سقطت من السماء في مكان خلق للتو! استعدت في تلك اللحظة نكهة خبز موشوم برائحة قمح فلسطيني من صباحات صيف ١٩٨٧. وصورة لعصفور أخضر كان يحضن جذع شجرة لوز في بستان جوار منزل في رام الله. وصوت هواء خفيف كان يداعب جبهة ستي تحت ضوء القمر في مخيم قلنديا. واسترجعت بصوت عال وبإيقاع مكسور أغنية فرقة العاشقين ” يما مويل الهوا يما مويليا…ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا”.

ودعنا أمي، بمشاعر مختلطة بين البهجة لفرحها والأسى للفراغ الذي ستترك والقلق عليها من مشقات الرحلة. قال المسؤول هناك مطمئنا إيانا: لا تقلقوا، ٧ دقائق وبتكون بأريحا!

– ٧ دقائق فقط! قلت.
– نعم ٧ دقائق.
– يعني لولا هذه الحواجز، ولو أكملنا طريقنا بالسيارة، لكنا في أريحا بعد ٧ دقائق!؟
– ابتسم بأسى واضح، وقال، نعم ستي.

“شو هالقهر يا الله!” قلت في نفسي وعدت بكامل عجزي للسيارة. إحساس بالرهبة والرغبة لم أحس به في حياتي مطلقا. حتى في أكثر الأماكن الدينية والمقدسة شهرة في العالم، لم أشعر مثقال ذرة مما شعرت به في تلك اللحظة. لم تكن لحظة انفعال عابر، وما كانت ذكريات يائسة، بل خيبة أثقل من الجبال.

وبمناسبة الخيبات أيتها الحياة، فقد كبرت وتكيفت معها وأقبل وأنا بكامل قواي العقلية -على الأقل حتى الآن- باللقب الذي منحه دوستويفسكي للإنسان عندما قال: “بكوا في أول الأمر ثم ألفوا وتعودوا. إن الإنسان يعتاد كل شيء. يا له من حقير”.

قد تكون العبارة هزلية أكثر مما تحتمل صورة الواقع القاتمة، لكن الحقيقة أنه لم تعد لي طاقة لي على الصدام مع أي كان مهما كان محترفا بالاستفزاز وجارحاً بالألفاظ. ولا أريد أن أنجو من الجنون. ولن أتحسر على شغف القراءة الذي أصاب الجد وسرى في أبنائه ولم ينتقل الى الأحفاد ولا حتى على أحلام ممزقة وعمر فات. ولن أبكي بلادا اتشحت بالفساد والسواد. ولا أريد أدوية الصداع النصفي والقولون. ولا أريد جهازاً يرصد مسار العواصف الرملية لأتقي نوبة ربو طارئة. ولا أريد أن اختلف مع سائق على أولوية المرور على دوار الواحة ولا أريد رحلة هادئة من دبي إلى عمان خالية من صراخ الأطفال. قد لا يكون لدي وقت لمزيد من الحزن والغضب.

لقد كبرت أيتها الحياة، صدقيني، ولكي تظلين جديرة بالاحتمال، أتنازل عن كامل حقوقي فيك ومنك. لكن ليس من بينها نهارا أعترف به إلى الله عندما أموت.. نهار واحد، يبدأ بالجمال ولا ينتهي إلا به!

 

 

 

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى