لارا مصطفى صالح تكتب: إلى آخر يوم في حياتي سأظل أذكر ما دار بيننا.

مسدت شعرها بإحدى يديها وبرجفة لم تستطع السيطرة عليها وضعت باليد الثانية كأس الماء على الطاولة. حدقت العرافة التي التقيتها مجددا في حفل زفاف ابنة صديقة لي في قرص القمر فترة ليست بالقصيرة. ماذا تقول في سرها، وما تناجي؟

– “تُنسى، كأنَّكَ لم تَكُنْ..تُنْسَى كمصرع طائرٍ..ككنيسةٍ مهجورةٍ تُنْسَى،..كحبّ عابرٍ…وكوردةٍ في الليل …. تُنْسَى”! قالت بصوت هادئ. أخذت نفسا عميقا ومسحت دمعة بطرف إصبعها. وأردفت، أحب محمود درويش وأعرف هذه القصيدة كما أعرف باطن كفي. ومدت لي كفها اليمنى.

رأيت على باطن رسغها وشما توحي لمعته بأنه جديد، كأنه هلال وحوله حرف القاف رسم مرات عدة بخط مزخرف.

– (إنه حجاب)؛ قالت وضحكت بشيء من التوتر. كانت بصدد أن تقول شيئا آخر لكنها تراجعت. بدا من نظرة عينيها أنها تعجلت وخاطرت بكبريائها وأفشت لي سرها! ونظرا إلى طبيعتها المتحفظة -على ما يبدو- كان عليها أن تختلق موضوعا لتتدارك ما حدث.
– الحمدلله على السلامة التي تكررت توحي أنك مغتربة. قالت.
– صحيح.
– طيب، كيف كانت إجازتك؟
– جيدة.
– عرفي لي معنى (جيدة).
– أنداري.. أصدقاء قدامى، وأقارب وعزائم!
– حلو!
– يعني!
– شو يعني (يعني)؟
– لا أحب العزائم والأماكن المكتظة خاصة (جمعات النساء)، ولا تناسبني أجواء الحفلات الصاخبة.
– غريب أمرك، (شو بتحبي، وشو بتكرهي طيب)؟ قالت.
– يقينا أدركت، ذات ليلة باردة، أن ما تهبني إياه الحياة وما تسلبني؛ لا يعنيني كثيرا، بل لا يعنيني على الإطلاق. لا يفرحني ولا يبكيني! لكن، لطالما أبكتني بضع سطور من رواية. وبالمقابل قد تهب بضع كلمات -قلبي- بهجة مختلفة.
– أنا بالمناسبة قارئة جيدة وأحب الأدب الروسي، لكن لم يحدث أن بكيت مرة بسبب رواية، خطوط الأيدي التي أقرؤها للزبائن قد تبكيني أياما. قالت بحزن جلي. الثقة التي تحدثت بها قلما تتحلى بها امرأة، بل لا تحوزها امرأة عادية!
– ما هي الرواية التي أبكتك كثيرا. أردفت.
– أتذكر، في تلك الليلة، طفلة كنت في الثانية عشرة من عمري حينما كنت بصدد قراءة إحدى روايات أغاتا كريستي، فقاطعني أبو فراس الجميل، قائلا: (بابا هاي بتقرئيها وانت بالباص). وناولني رواية الجذور! واصلت قراءة تلك الصفحات التي صورت أقذر تجارة شهدتها البشرية على مدار يومين كاملين، اعتراني خلالها الهلع، وكآبة كثيفة. زمجرت تلك الصرخات في أذني حتى كادت تنزف. انخرطت في بكاء مرّ، لم ولن يكن بمقدور أي حدث حزين من أحزان الحياة أن يدفعني إلى مثله!
– يا صديقتي، على هذه الأرض، قلوب تستحق أن نحيا بفرح كرمى لها ولولاها لما باتت الحياة بهذا الجمال. سامحك الله يا أبا فراس. قالت بابتسامة رقيقة. وقامت عن الكرسي برشاقة، تعالي نرقص.
– لا أحب الرقص مطلقا.
– أم نكد. قالت وضحكت كثيرا. سارت باتجاه مسؤولة ال دي جي، همست في أذنها وتابعت سيرها باتجاه المكان المخصص للرقص. حلتها البراقة كانت تخفق ورائها مثل ظلها. نظرت صوبي بعطف غريب ودندت مع الأغنية التي طلبتها (وأمانة يا دنيا أمانة.. تاخدينا للفرحة أمانة)…

 

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى