وائل مكاحلة يكتب: أن تكون منافقا

يُحكى أن مذيعا من وسط أفريقيا ظهر على شاشة التلفاز ليذيع نشرة محلية على الهواء مباشرة، وفي لحظة صدق رمى الأوراق من يده وصاح: “أوقفوا التصوير.. لا أستطيع الكذب أكثر”!!.. حصل معي شيء مشابه عندما زارني من يدّعي أنه صديق، ومن فرط وقاحته لم أستطع سوى أن أفتح له الباب في هدوء، قائلا له في تهذيب: “إمشطلعبراااا”.. الراحة النفسية التي شعرتُ بها وقتها، تشبه – إلى حد كبير – شعورك وأنت تتلقى التهنئة لفوزك بالميداليا الذهبية في مسابقة لم تشارك فيها أصلا!!.. وقد قدّرت وقتها أن المذيع الأفريقي شعر بشيء مشابه وهم يقتادونه إلى السجن، توطئة لأن يقضي فيه ما تبقى من عمره..!

الكاذبون والمدلّسون والمنافقون هم أصحاب مواهب عملاقة لم تنبغِ يوما لأمثالنا نحن، نحن الذين نسفُّ التراب كي نعيش.. ولا تخدمنا غريزة النفاق في أشد المواقف صعوبة، حين جاءني إنذار في عمل قديم.. نصحني زميل أن أذهب للمسؤول فأسترضيه كيلا يحيل الإنذار للقسم المالي، فيخصم هؤلاء لقمة من رغيف الراتب، يومها نظرت له شزرا: “أنافق من أجل بعض الدنانير؟!.. سأموت قبل أن أفعل شيئا كهذا”، ما رأيته فيما بعد يؤكد أنني أحمق، فالمنافقون يعيشون في الشمس طويلا ويتمتعون بأرغفتهم كاملة.. ربما مع بعض قطع اللحم كذلك، فيما يموت أمثالي في الظل قابضين على كسرة خبز نالوها بعزة نفس فارغة..

“أن تصل متأخرا خير من ألا تصل”.. هذه الحكمة بالذات لن تفيدك في عالم التدليس الذي نعيش فيه اليوم، أن تصل متأخرا معناه أن تتعلم متأخرا.. ومعنى هذا أنك لن تتعلم شيئا على الإطلاق، الإنجليز لديهم مثل مشابه لحالتنا هذه: “لا تستطيع أن تعلم كلبا عجوزا حيلة جديدة”، وهناك حكمة شعبية أكثر صدقا تقول: “اللي سبق أكل النبق”، وقد سبقنا ثلة ممن تعلموا أصول التدليس والنفاق.. فأكلوا هم نبق النيابة.. ونبق الوزارات.. ونبق الهيئات المستقلة (التي لا أعلم ما هي لكنها موجودة وتثمر نبقا).. ثم أكلوا بعد ذلك نبق الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وتركوا آباءنا ليأكلوا الحصرم وحدهم فنضرس فيه نحن..!

هناك مقال للراحل الكبير د. أحمد خالد توفيق، يقول فيه: “النفاق ليس عملاً سهلاً أو هينًا، بل هو عمل يحتاج إلى أكبر قدر ممكن من التحكم في العواطف وفي تعبيرات الوجه وانتقاء الكلمات”..

أن تكون منافقا يعني أنك ستفوز بكل الأرغفة والنبق.. والميداليات الذهبية التي لم تشارك ببطولاتها، أن تكون منافقا يعني أنك ستتجنب أكل الحصرم.. وتجنب أحبابك أن يضرسوه، أن تكون منافقا يعني أنك ستقضي حياة رغدة تتنقل من كرسي لآخر، وستحجز لأبنائك ذات الكراسي.. فيزوروك في مثواك الأخير ليقرأوا عليك فاتحة الكتاب، ويطلعوك على نتائج عملك فيهم..

للشاعر الجميل أحمد مرضي أبيات رائعة، ربما تلخص ما أردت قوله:

وطني فانوسٌ يدعكهُ
إبهامُ رضيعٍ في اللّفة
يتحسّسهُ حِفّه حِفّه
من ورّثهُ هذي الخفَّة؟
من علّمهُ أن الرضّاعة في كفّة
والناس جميعاً في كفّة؟
من بشّرهُ في حفل ختانٍ رسميٍ:
“مبروكٌ يا ابن معاليهِ
ستصير وزيراً كالوالد”..؟!!
_________________________

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى