وصفي التل .. المثقف الذي ادار مفاصل الدولة كمفكر وقيادي من مبدأ  ” سيادة الأردن على أرضه وسكانه” …

احمد عبدالباسط الرجوب

اعتاد الكتاب والصحفيون والشعراء الاردنيين في الثامن والعشرين من شهر نوفمبر / تشرين ثاني من كل عام استذكار شهيد الوطن دولة الرئيس وصفي التل رحمة الله رحمة واسعة، .. اعتادوا على إحياء ذكراه بكلمات وقصائد تجسّد مآثرة وإنجازاتة الوطنية تجاه الاردن وقضية فلسطين العربية… هنالك وفي عام1971 وعلى أعتاب فندق الشيراتون صعدت الروح الطاهرة التي لا تعرف الخوف، تاركةً صدى الصوت الذي لا يموت…

تعتبر تجربة وصفي التل في عملية التنمية الاقتصادية واحدة من انجح التجارب الرائدة في مجال التنمية الاقتصادية في بلادنا، والنقطة الاساسية التي انطلق منها الاردن في عملية التنمية الاقتصادية وهي منهجية سياسة الاعتماد على الذات، وتعد تجربة وصفي التل من التجارب التنموية الجديرة بالاهتمام والدراسة لما حققته من إنجازات كبيرة وشواهدها على ارض الواقع بدءً من تكليفة بتشكيل حكومتة الاولى في العام 1962 وعلى امتداد 60 عاما من اطلاق مشاريعه التنموية والادارية والاقتصادية في اطار حوكمة العمل الحكومي العام والتي اظهرت نجاحا واسعا على تلك المبادرات والتي يلمسها المواطن يوميا لانها كانت مبنية على خطة استراتيجية بعيدة المدى والتي شملت مختلف مناحى الحياة …

وبالنظر الى انجازات حكومات دولة الشهيد وصفي التل الاولى والثانية (1962،1965) على التوالي، يلمس المتابع حجم ونوعيّة الإنجاز، وبرغم التحدّيات وشحّ الموارد، ومن هذه الإنجازات، على سبيل المثال وليس الحصر: تأسيس ام الجامعات :الجامعة الأردنيّة، إنشاء معسكرات الحسين للعمل، عمليّات التطهير والتبديل في الجهاز الإداري، إنشاء بنك الإنماء الصناعي، وضع قانون مؤسّسة الإسكان، إيصال مياه الشرب إلى عشرات القرى، وتعبيد آلاف الكيلومترات من الطرق القروية، وإنشاء عشرات المجالس القرويّة فضلا عن نشر الخدمات الصحّيّة والبريديّة في القرى والمحافظات، المباشرة بتطبيق نظام التأمين الصحّي، تأسيس دائرة الثقافة والفنون، تأسيس مؤسّسة رعاية الشباب، المباشرة بتأسيس التلفزيون الاردني وإعادة إعمار مدينة معان بعد نكبة الفيضان التي حلت بها في العام 1966، وبناء المدارس والمستشفيات والناقل الوطني (شركة عالية في حينها) ، والقائمة تطول حيث عرج على ذكرها غيري ممن كتبوا عن دولة الشهيد وصفي ومآثرة والتي اصبحت معلما يشار اليها بالبنان امتدادا للزمن الذي كان فيه رئيس الحكومة يدير الدولة من منظور الولاية العامة .. وليس كما يحصل هذه الايام من خلال بعض مقالات الكتاب المأجورين او مقابلات الفضائيات التي تظهر هشاشة تفكير وضحالة الرؤية لدى بعض رؤساء الحكومات على مدى عقدين من السنوات العجاف وقحط الرجال..

اليوم، وبعد مرور 50 عاما على استشهاده طيب الله ثراه ، مازلنا نتعامل مع الراحل بالكثير الكثير من المشاعر والقليل جدا من الفهم، ولو فهمناه أكثر لأحببناه أكثر، ولتمسّكنا بمنهجه ومبادئه أكثر فأكثر ، فعندما جاء دولة الشهيد وصفي التل إلى الحكم، مطلع الستينيّات من القرن الغابر كما اسلفت، كان يجسّد، بحق، جيلا جديدا، من الساسة الأردنيين، وتجربة جديدة في ادارة الدولة الاردنية اتت من بنات افكار ومبادرات دولة الشهيد وصفي التل، وأصرّ الملك الراحل الحسين بن طلال طيّب الله ثراه، على استمراريّة التجربة، والرهان الواثق على الجيل المثقف من أبناء الأردن، وتجديد الحياة السياسيّة.

من هنا بدأ الرئيس التل طريقه في ادارة الدولة، فقد كان يتوكأ على خبرة من نوع آخر؛ خبرتة في جيش الإنقاذ في الأربعينيّات من القرن الغابر، وسياسيّا في المكتب العربي في القدس ولندن، ودبلوماسيّا في ألمانيا وإيران والعراق، وإعلاميّا ككاتب مقال في صحيفة ”الرأي”، التي أصدرها القوميون العرب مطلع الخمسينيات، ومن ثمّ مديرا للإذاعة الأردنيّة؛ والأهم، تجربتة في العمل إلى جوار الملك الحسين رئيسا للتشريفات الملكيّة.. هذا الرصيد من الخبرات المتنوّعة، إضافة إلى السِمات الشخصيّة، هو ما صاغ ملامح حقبة وصفي التل كرئيس للوزراء. وهي حقبة امتازت بتحقيق إنجازات نوعيّة كما اسلفنا، وامتلاك المقدرة على مجابهة المنعطفات الخطرة…

وهنا الشيئ بالشيئ يذكر … في الجانب الاقتصادي- الاجتماعي؛ فقد قاد رحمة الله مفاصل الدولة الاردنية في تلك الحقبة، النهج الاقتصادي الملائم للأردن وخصوصيّته ومتطلباته وسط محيط تسوده النظم الاشتراكيّة، وشعاراتها الثوريّة والرنانة. ومن هنا، بدأت مؤسّسات القطاع العام بالظهور اقتصاديّا، ولكن مع دور فاعل وتحفيز لدور القطاع الخاص، في سبيل إقامة نظام اقتصادي مختلط، تقوم فيه الدولة بوظائفها لخدمة قاعدتها الاجتماعيّة، وقيادة التنمية الوطنيّة الناشئة، آنذاك، بما يكفل تحقيق العدالة الاجتماعيّة، دون أي تجاوز لدور القطاع الخاص ومكتسباته…

ونتيجة لهذه السياسات الناجحة التي قام عليها دولة الشهيد وصفي التل فقد حقق الاردن قفزات هائلة في التنمية البشرية والاقتصادية اتت ثمارها في سبعينيات القرن الفائت، فأصبح اقتصاد البلاد قويا وشيدت المباني الحكومية والمدارس والمراكز الصحية وغيرها الكثير الكثير من البنيان ، وكذلك الحال في مجال التجارة الخارجية، من خلال تأسيس بنية تحتية متطورة، مما انعكس في تنويع مصادر الدخل القومي من الصناعة والزراعة التي كان الاردن يصدر القمع والعدس الى اوروبا في تلك الفترة ، ولذا حقق تقدما ملحوظا في معالجة النفط والسياحة، وكانت معدلات البطالة والفقر تكاد لا تذكر ولم يلاحظ في طيلة فترة ولاية وصفي اية حالات فساد وافساد… وفي مقارنة ذلك في ايامنا الحاضرة حيث ان الفقر يزكم الانوف والبطالة مستشرية بين جيل الشباب، وسعيهم للهجرة، وهروب الاستثمار المحلي، عزوف الاستثمار الأجنبي، وآفة المخدرات زادت من بؤر الاجرام وانفلات الشباب الى دهاليز واوكار الانحراف، مشاكل الزراعة والتجارة والصناعة والنقل، التعليم والصحة كنا نباهي بهما الامم، اما الوزراء الذين يهبطون علينا لا نعرف لهم خبرة ومنشأ، توريث المناصب، وسوء الإدارة الذي نلمسه في عمل الحكومات بين حين وآخر، وما قام به التيار الليبرالي في العقد الأخير بخصخصة المؤسسات الوطنية التي أسسها وصفي والقائمة تطول فحدث ولا حرج…

خلاصة القول:-

لكل ما قدمت من مآثر ومبادرات لشهيدنا الغالي فإنني وجدت من الاهمية بمكان الى التنوية حول قضايا بعينها كنقاط مضيئة في فكر ومنهج دولة الشهيد وصفي التل وهى:

1. في حكومته الثانية عام 1965 أكمل إغلاق ملف المصالحة الوطنية بإصدار عفو عام عاد على ضوئه عدد من اللاجئين السياسيين إلى الأردن  وهو ما سمي بشهر ” تبييض السجون ” في التاريخ الأردني حيث جرى حوار بين دولة الشهيد وصفي التل والشيوعيين على باب السجن ، .. فقد زار رئيس الوزراء دولة الشهيد وصفي التل في حينها يرافقه رئيس مجلس النواب السيد عاكف الفايز ومدير المخابرات محمد رسول كيلاني وعبدالحميد شرف السجن والتقوا بالمفرج عنهم من السجناء ، حيث اتخذت الحكومة قرارا بدمج المعارضين السابقين والمسيّسين تحديدا بالوظائف العامّة، ليتولوا أعلى المواقع الحكوميّة، وأكثرها حساسيّة.

2.إنقاذ الأردن من الحرب الاهلية في العام 1970، .. فلم يكن دولة الشهيد وصفي التل يوما خصماً للعمل الفدائي، أو ليس طرفا ثانيا للعمل الفدائي، بل إنه في طليعة اللذين نادوا بقيام العمل الفدائي، فقد كان وصفي رجلاً عسكرياً ومناضلاً، وله تجربته العملية الطويلة، وقد لاحظ خطئًا حاول إصلاحه بشتى الوسائل، ولما أيقن أنه قد دس على العمل الفدائي أعداء للمعركة، وأعداء للأردن، وأعداء للعروبة، وأعداء للتحرير، فقد وقف أمام هذا الدس بصلابة وجرأة وشجاعة كادت أن تقوض الأردن وتمزق وحدتهمن مبدأ ” سيادة الأردن على أرضه وسكانه” …

3.لقد آمن بأن تحرير الارض المحتلة في فلسطين التاريخية لا يتم إلاّ بالقتال من خلال حرب عصابات، قادرة على تحرير الأرض المغتصبة من خلال تطوير أربع جبهات رئيسة، ثلاث منها دفاعية، ورابع للهجوم والتصدي، والجبهات الدفاعية هي : الجبهة الشمالية لسوريا، والجبهة الشرقية للأردن، والجبهة الجنوبية لمصر، أما الجبهة الرابعة فسماها الجبهة الوسطى، وتتشكل بصورة رئيسية من الفلسطينيين، وتعمل داخل الأراضي العربية المحتلة لاستنزاف العدو، وتتحرك وتهاجم من جميع الجهات، ومن الداخل، في إطار إستراتيجية عربية محددة للمواجهة ، تلك الخطة التي كان دولة الشهيد سيقوم بعرضها في اجتماع  وزراء الدفاع العرب في القاهرة ، ولكن يد الغدر الجبانة أمتدت اليه في ذاك اليوم المشؤوم 28 /11/ 1971 في مصر العربية، وللاسف فقد طويت صفحة تلك الخطة والى الابد…

اخيرا وليس اخرا … استحضار سيرة دولة الشهيد وصفي التل، والتحدث عن مناقبه وسجاياه، وتحليل المبادئ الوطنية والقومية التي صاغت فكره السياسي، ووجهت سلوكه في كافة مراحل حياته، يقدم لأجيالنا نموذجا فذاً يحتذى به في الرجولة والشجاعة والوطنية وصدق الانتماء، ومثلها الأعلى في تحمل المسؤولية، وإدارة الحكم بالعدل والأمانة والنزاهة، وطهارة اليد ونقاء الضمير ، .. رحم الله دولة الشهيد  وصفي التل وجميع الشهداء، الذين قضوا في سبيل الدفاع عن وطننا، وجزاهم الله عنا خير الجزاء…

باحث ومخطط استراتيجي

 

 

 

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى