تحريك الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن” {وليّطّوّفوا ليتنا نطفو.. بين أكتاف الطائفين..

عمان – بسام العريان

تحريك الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن”-

اللهم ارزقنا الحج هذا العام، اللهم لا تحرمنا يا حي يا قيوم).

أحبتي في الله…
كيف حال قلوبكم مع الله؟
أول نظرة..
أنا أريدك أن تدخل معي.. أن تأتي معي.. تعال لنصل إلى الباب..
بمجرد أن تصل إلى باب الكعبة، يكون رأسك هنا تحت الباب، وانظر من الأسفل وأنت واقف هنا.. ارفع رأسك.. ارفع عينيك، سبحان الله!
هل رأيت الشموخ؟، أين أنت؟!
قزم.. قزم..
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ..} [سورة الفتح: 27]، فتأمل الآية، وقل: “صدق الله”.
أخوتي…
هل ازداد الشوق في قلوبكم؟؟
إن من أغرب الشوق والحنين أن ابن الجوزي عليه رحمة الله -في كتابه: “تحريك الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن”- أفرد بابا اسمه: “باب ذكر حنين الإبل في السير..”، وذكر خبرا عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيه أنه كان راكبا ناقة، وذاهبا للحج”.. (اللهم ارزقنا الحج هذا العام، اللهم لا تحرمنا يا حي يا قيوم).
وقد لاحظ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناقة وهي تسرع أكثر من المعتاد وأكثر من الواجب، حتى كادت أن توقعه، فأنشد – وهذا واحد من جوانب الرقة في حياة الصحابة..- وقال:
كأن راكبها غصن بمروحة *** إذا تدلت به أو شارب ثمل

وذكر ابن الجوزي محبا شأنُه عجبٌ، فإنه لما تراءت له جبال مكة أدهش، وقال:
أبطحــــــاء مكة؛ هذا الذي *** أراه عيانا، وهذا أنا؟

ثم أغشي عليه، فلما أفاق قال:

أنت المحب وهذه ديارهم *** فما بقاء الدمع في الآماق؟
وما لهم لا يغشى عليهم ويبكون فرحا؟ أليسوا هم الذين بكوا شوقا؟

{وَلا الّذِين إذا أتوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قلْتَ لا أجِدُ مَا أحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ توَلَّوْا وَأعْيُنهُمْ تفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ..} [سورة التوبة: 92].

إخوتي في الله…

أنا أحبكم في الله..

وصل الحجاج إلى مكة، وقال مشرف الرحلة: “اذهبوا للفندق لترتاحوا قليلا”، فإذا بالأعناق تشرئب متسائلة: “نرتاح قليلا؟ نرتاح مماذا؟ أين الكعبة؟..” وهنا يشتد صراخ الحاج بالتلبية، فقد كان طيلة الطريق يقول: “لبيك اللهم لبيك، لبيك اللهم لبيك..”

لبيك.. لُبّي لك

لبيك.. إخلاصي لك

لبيك.. قصدي لك

لبيك.. أجيبك إجابة بعد إجابة

فإذا به يرفع صوته أكثر داخل مكة، وبمجرد أن يرى مآذن الحرم، تتسارع دقات قلبه، وتنهال من عينيه الدموع، وتتداخل كلمات التلبية..

ويقترب من ساحة المسجد من الخارج، ويقترب معها وقت أول نظرة..

وبدأت الجاذبية تنهار كأنه ركب مركبا يموج به، ولا تزال تلبيته تزلزل الدنيا..

وتتسارع أقدامه، ولا يدري من أي الأبواب سيدخل؟

ينظر إلى الأبواب يمينا وشمالا..

يقول: “سأدخل من هنا”..

ثم يتذكر أن هذا الباب أسرع للكعبة، ويجري نحوه: “لا لا؛ من هنا”..

كلما ظن أن أحد الأبواب أسرع جرى نحوه، ثم كلما ظن أن غيره أقرب أسرع إليه..

يا لها من لحظات!!

إنه يقترب من أول نظرة: “لبيك، لبيك، لبيك..”..

الآن صار للكلمة مردود آخر.. صارت ترتد نحوه..

كلما قال: “لبيك..” لكأنها تصطدم بشيء عظيم قريب، ثم تعود فتحتضنها الكلمة نفسها: “لبيك..”

كأن الكلمة تحتضن: “لبيك..”..

“لبيك..” خارجة، و”لبيك..” عائدة.. الكلمتان تصطدمان في صدره..

والآن آن أوان نوال المراد، أول نظرة..

دخل..

وهنا يجول ببصره بين الأعمدة..

يبحث عن..

يسدد بصره، يبحث عن منفذ، يتطلع إلى شيء في الأفق..

فلما وقع بصره على الكعبة، تلعثم، تلجلج..

ترك الكلام لأحداقه.. وترك الصراخ لآماقه..

فلما بلغ سلالم الصحن أدهش..!

مالِهذا الصحن ينزلون إليه كأنه نهر؟

مالِهذه الكعبة يدور الناس حولها كأنها مدرسة؟

ما هذه الأمواج التي لا تتوقف؟

مالك يا قلبي.. لا تقف كملكة سبأ أمام صرح سليمان؟

انزل مع الناس…

هنا..
على كل شيء زحام..

هنا..
الكل يطير وينتشر كالحمام..

هنا..
حقائق أحلى من الأحلام..

فأخذ يقترب.. ولا يشبع..

يقترب ولا يهدأ..

يقترب ولا يكتفي..

وهنا نذكر دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحن يوم الفتح:
“لما دخل رسول الله المسجد الحرام أمر بمفتاح الكعبة، فدخلها قبل أن يطوف، فقضى فيها معظم النهار”

استشعر الحاج الآن أنه وصل..

وصول إلى هدف مركز.. عرف معنى المحطة والغاية..

وآن أوان طواف القدوم..

طواف القدوم…

أخذ الحاج يقترب حتى صارت الكعبة فوقه!!

فوقه!!

ياااااه.. ما هذه العظمة.. كم أنت شاهق يا بيت الله…

أول درس في مدرسة العظمة..

سبحان الملك.. يالهذه الكرامة من كرامة…

حكى الله عن بني إسرائيل قائلا: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأعراف: 171].

أما أنا .. فرفع الله فوقي الكعبة.. هيبة وعظمة وجلالا..

لكن مع حب وحنان واستشعار كنف الله..

“فهمت أول واجب علي.. تبت يا رب وتعلمت..”.

ودارت عينه على الكعبة..

يطوف طواف القدوم، ولا يكف عن النظرات، فانهالت عليه الدروس والعبر..

أول ما وقف تحت الباب.. ورفع يديه تحت الباب..

وشب.. واشرأب..

ليحاذي بنظرِه الأعتاب..

رفع بصره إلى باب الله، فقرأ على أستاره: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [سورة الفتح: 27].

{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ..} [سورة الفتح: 27]، من الذي أتى بك؟!

إنه الله الذي صدقك وعده..

ولا تزال النظرات تعلمه..

جدار المواجهة

وبدأ يتحرك من أمام الباب..

ينشر روحه لتطوف.. بل تطفو.. بين أكتاف الطائفين..

لا يرضى عن يساره إلا حبه..

سئم أن تحول بينه وبينها الحوائل..

ولما رفع رأسه على أول جدار (نفس الجدار الذي فيه الباب).. وجد عليه قول الله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [سورة البقرة: 125].

كأنها رحلة سياحية.. والله يحكي له حكاية المكان..

أنس عجيب وخشوع مهيب في كلمة: {جَعَلْنَا..} [سورة البقرة: 125].

هنا: بيت الله..

الله نفسه جل جلاله الذي جعله..

ثم من أول جدار يبشر بالعودة: {مَثابَة..}…

كأن الحاج يقال له: “ليست هذه آخر أفراحك”.

وما أشبه ذلك بأول ما يبشر به أهل الجنة عند دخولهم: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [سورة الزمر: 73].

من أول دخولها.. بشروا بتكرار النعيم والخلود فيه..

ومالنا ألا نشبه ذلك الصحن بالجنة؟ أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة» [رواه الترمذي وصححه الألباني]؟

أنت جئت أرضا لا يضام زائرها ولا يهان: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [سورة آل عمران: 97].

حجر إسماعيل…

ولا يزال الحاج يسبح في طواف القدوم حتى حاذى قوسا من رخام.. هو من كمالة الكعبة: “الحطيم”
كانوا يقولون: “كم تحطمت فيه من الخطايا”؟

وهنا وقفة هنية.. ودعوة ربانية..

هذا المكان هو الوحيد من الكعبة الذي أذِن للناس البسطاء بالصلاة فيه، وقُصِر دخول الكعبة على الوجهاء، فشاء الله عجبا..!!

شاء أن هذا الجدار بالذات من الكعبة، كتبت فيه مرتين لفظة: {عِبَادِي}…

والله لكأنه ترحاب وبشرى بالدعاء المستجاب..

ففي الحجر لوحتان:

{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة الحجر: 49].

و: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [سورة البقرة: 186].

فيا خيبة الزاهدين في دخول الحجر..

ويا خسارة “البطالين” عما فيه من الشرف والأجر..

ويا هناءة الضعفاء والمساكين.. ويا شرفهم في ضيافة مليكهم..

فادخل الحجر، وصلّ فيه ركعتين..

في أيام (الرَوَقَان)، وطبعا ليس أثناء الحج والعمرة، أدخل هكذا، وأركن ظهري إلى الحجر، وأمسك الحلقتين اللتين تربطهما الكسوة، وأقول: “يا رب؛ من له ظهر لا يُضرَب، أسندت ظهري إليك، وجهت وجهي إلى قبلتك..”.

فيا هناءة الضعفاء والمساكين أن خصصت لهم هذه القطعة بالمجان..

بين الركن المصري الغربي واليماني:

{يجد الله}

ولنا مع هذا الجدار.. قصة حب قديمة:

1- بابنا رقم (1) يطل على زاوية هذا الجدار المكتوب عليها: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [سورة الأحزاب: 47].

2- مكاننا المميز في الصحن.. وقبلتنا التي أتيناها من بعيد هي الزاوية الأخرى من هذا الجدار.. وما أعظم ما سطر عليها: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أوْ يَظلِمْ نفسَهُ ثمَّ يَسْتَغفِرِ اللهَ يَجدِ اللهَ غفُورًا رَحِيمًا} [سورة النساء: 110]..

فالجالس هنا كلما نظر إلى الكعبة يجد هذه الكلمة تقشعر بدنه، ويعظم شوقه، ويخفف ألمه: {يَجِدِ اللَّهَ..}…

وعلى هذا الجدار الحبيب، يقرأ الحاج: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [سورة الحج: 26-29].

فيصادف الحاج هذه الكلمة: {وليّطّوّفوا..}.. فكأنها تقول له: شد شدك.. استزد من الطواف.. طف وتطوّف: {وليّطّوّفوا..}…

بين الركنين:

ركن الحجر الأسود.. والركن اليماني

هنا.. وبينما الطائف يسرع ويرمل.. إذ بالخطوات تهدأ: “نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرمل بين هذين الركنين”.

ووجد الطائف كل الألسنة حوله رغم اختلاف اللغات تقول: “ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذابَ النار”.

كلمة واحدة من كل الألسنة!!

يالهذا الجانب من الكعبة.. كم غفر اللهُ فيه؟!

“ربنا”.. دعاء بالجمع؛ أنت سفير المحصرين:

“في الدنيا”..يجمع لك ما قصرت عنه مسألتك

“وفي الآخرة”..ليجبر من تلهى بأدعية دنيوية قاصرة

“وقنا عذاب النار”.. لا تزك نفسك..لم تأت إلا كي تتقي النار!!

ويالخاتمة كلمات زينة الكعبة: (على جدار الركنين)!!

{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [سورة آل عمران: 95-97].

انتهينا من حيث بدأنا..

نحن هنا في منة الله وصدق وعده..

ثم ارتقى المحب على الصفا..

ارتقى على الصفا
ونظر إلى الصحن كله من بعيد…

وتلمَّحِ الكعبة من بين السواري…

وصرخ من الفرح: لا إله إلا الله..

{وحده}

أنجز وعده..

ونصر عبده..

وأعز جنده..

ثم ارتقى المحب عرفة…

ثم ارتقى المحب عرفه…
فرأى الدنيا من فوق

وأتاه من المعارف ما لم يكن قد عرفه

وأكرمه ربه..

وباهى به..

وألهمه من الدعاء ما أحبه

ثم نفر إلى مزدلفة…

ثم نفر إلى مزدلفة…
فقربه الله وأزلفه

وأراحه وأسعده…

ثم بات بمنى

وحصّل مراده ونال المنى

(اللهم مثابة)

كتبه: فضيلة الشيخ محمد حسين يعقوب حفظه الله نقلا عن موقعه

 

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى