مهدي مبارك عبد الله يكتب: رحيل الناشطة الاسترالية ” جين كالدر ” نصيرة الفلسطينيين

غيب الموت يوم الاثنين الماضي في مدينة خان يونس جنوب مدينة غزة الناشطة والمناضلة الأسترالية الأصل المتحدرة من أسرة كادحة الدكتورة ” جين كالدر ” عن عمر ناهز 89 عام بعد حياة طويلة وحافلة كرستها في خدمة العمل الطبي والإنساني الداعم والمناصر للقضية الفلسطينية من اجل رفع المعاناة وغرس البسمة والأمل على شفاه المعاقين وجرحى ومصابي المواجهات الدامية مع قوات الاحتلال الإسرائيلية

 

في قطاع غزة عايشت الراحلة كالدر القصف الإسرائيلي من البر والبحر والجو وما نجم عنه من مجازر وحشية كما شاهدت بأم عينها نوعا جديدا من البؤس لحياة  2 مليون إنسان محاصرين بالموت والدمار وهم قابعين في 8 مخيمات و5 من ما يسمى بمدن وقرى مزدحمة بالبشر يخرجون من حرب إلى حرب ( تفصل بينهما حرب أخرى ) كما لاحظت وباستغراب كبير ان المعوقين جزءا أصيلا من المشهد العام لحياتهم شباب بعمر الورود يحتاجون الى عكاكيز تعينهم على مواصلة المسير بعد أن تعبوا واعياهم البحث عن دواء يشفي جراحهم الخطرة التي تعفنت بسبب رصاص الإسرائيليين المسمم والمحرم دوليا

 

عملت الدكتورة كالدر لسنوات عديدة عميدا لكلية تنمية القدرات الجامعية في غزة التي أنشأتها قبل 15 عام لتضمن مأسسة رعاية المعوقين واستمرار تقديم الرعاية لهم على أسس علمية صحيحة وبأيدي وخبرات محلية مدربة وفقا لأرقى البرتوكولات الدولية المساهمين الأوائل في وقد ساهمت أيضا في تأسيس جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني وشاركت في العديد من نشاطاتها

 

كلية تنمية القدرات الجامعية مؤسسة اكاديمية وبحثية متطورة يوجد في الأقسام العليا فيها تخصصات تهتم بتنمية قدرات ذوي الاحتياجات الخاصة وتأهيلهم للدخول إلى سوق العمل كما لعبت الراحلة دور رائد في تنشيط علاقات التعاون الدولية وتسهيل التدريب الأكاديمي والمهني في مجالات التربية والتأهيل وقد بقيت وفية لشعب فلسطين وقضيته حتى لحظات حياتها الأخيرة وهي تصر على البقاء في غزة لمواصلة رسالتها الإنسانية النبيلة وهي تقدم نفسها بتواضع كأم متطوعة لخدمة المعاقين

 

بعدما تركت كالدر أهلها ووطنها وحياة الرفاه في مجتمعها الغربي قبل 42 عام متوجهة إلى منطقة الشرق الأوسط في رحلة اسمتها ( الحب والتحدي ) بدأت من بيروت مرورا بالقاهرة الى غزة حيث وضعت منذ البداية نصب عينيها مساعدة الأطفال للعيش في أمان واستقرار ومنح الحياة والامل لكل من سلبت الحروب أرواحهم وأسكنتها الأشباح كمدن مهجورة كما اوضحته جليا في كتابها الرائع بعنوان ( أين يقود الطريق ) الذي شرحت فيه كل تفاصيل رحلتها ومشوار معاناتها وما واجهته من صعاب ومخاطر وتحديات

 

تجربتها مع الشعب الفلسطيني بدأت عام 1981 بعدما عملت مع الهلال الأحمر الفلسطيني في لبنان الذي كان يراسه الراحل الدكتور فتحي عرفات كمتطوعة ثم أصبحت موظفة متخصصة في تعليم الأطفال والعناية بهم وتوفير الامن والاستقرار لهم وخلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وفي خضم المواجهات والقصف كانت جين تخوض معركة نبيلة للحفاظ على الحياة وهي تبحث في المستشفيات عن المحتاجين للمساعدة الطبي والإنسانية كما عاشت مأسي المشردين والجرحى والمعوقين ضحايا تلك الحرب الهمجية وكانت شاهدة على مذابح صبرا وشاتيلا وما اقترفته أيدي الفاشية اللبنانية المحمية بجيش شارون العنصري والتي راح ضحيتها أكثر من 3500 شخص

 

في عام 1985 ساقها القدر للعثور على ثلاثة أطفال فلسطينيين مجهولي النسب وغير أشقاء هم ( دلال وحمودة وبلال ) وجميعهم كانوا من ذوي الاحتياجات الخاصة حيث يعاني حمودة من شلل رباعي وتأخر عقلي و يعاني بلال من ضمور عقلي أما دلال فكانت فاقدة للبصر منذ الولادة

 

عملت جين خالص جهدها بمساعدة جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني على إخراج الأطفال الثلاثة من بيروت وانتقلت معهم إلى سوريا قبل أن تسافر بحمودة ودلال إلى مصر تاركة بلال اضطرارياً في مخيم اليرموك في سوريا لدى إحدى الممرضات من جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني بسبب مشكلة في أوراق سفره منعته من الخروج  ثم نجحت بعد ذلك في ضمه لعائلته الجديدة في مصر وهنالك تكفلت بتربيتهم ورعايتهم ولم تتدخل في ديانتهم فهي سيدة مسيحية وأبقتهم مسلمين على دين آبائهم

 

بعد 10 سنوات عاشها  الأطفال  الثلاثة في مصر ومع عودة السلطة الوطنية الفلسطينية بموجب اتفاق أوسلو إلى الأراضي الفلسطينية انتقلت كالدر في بدايات عام 1995بأطفالها الثلاثة للعيش في قطاع غزة حيث استقرت في خان يونس ولم تتزوج واصبح  أطفال الذين يشكلون ( ثلاثية الجرح والألم وبشاعة الحرب ) اسرتها وعائلتها الصغير بعدما احتضنتهم بكل الحب والحنان والرعاية ولم تشعر يوما بالندم على خوضها لهذا الطريق الوعر والمحفوف بكل الأذى والعقبات

 

الأطفال كبروا فحمودة عاش 26عام في أحضان أمه جين كالدر وأخويه بلال ودلال قبل أن يتوفى عام 2008 بسبب وضعه الصحي الحرج أما بلال فقد تزوج قبل عامين بمساعده أمه وأخته ورزق بطفل ودلال الفتاة الكفيفة والمحجبة أتمت دراستها وحصلت على شهادة الماجستير في العلوم الإنسانية وتشغل حالياً منصب محاضر جامعي ورئيس قسم كلية التعليم المستمر في الكلية الجامعية التابعة للهلال الأحمر الفلسطيني وهي تتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة والفرنسية بشكل جيد

 

سبحان الله تخيلوا لو لم تحتضن هذه الام الرؤوم هؤلاء الأطفال الفلسطينيون وتعتني بهم لكان الفشل أو الموت الخيارين الأقرب لحياتهم في ظل واقع في بيروت الخطير والصعب في تلك الفترة لقد صنعت هذه المرأة العظيمة إنجازات كبيرة وبطاقة مذهلة اسمها ( الإنسانية ) حين أنقذت حياة ثلاثة أطفال لا سند لهم في الدنيا ويعانون من أوضاع صحية سيئة وقضت سنوات عمرها في دعمهم وتحسين مستقبلهم دون تخوف أو تردد بسبب واقعهم الصحي أو الاجتماعي حيث كانت تقول عنهم بكل فخر وامام الجميع هؤلاء عائلتي التي أقيم معها في غزة يلازمونني كطيف أرى في وجوههم انتصار الحياة

 

أمضت الطبيبة الانسانة كالدر بقيت حياتها في منزل متواضع مكون من طابقين تسكنه وابنها بلال وابنتها الكفيفة دلال في مخيم حي الأمل في خان يونس جنوب غزة اشترته بمالها الخاص وسجلته باسم دلال وبلال بناءً على  رغبتها الخالصة وكثيرا ما كانت تنتقد الاعلام الغربي وبلادها في تحيزهم للرواية الصهيونية المزورة

 

لم تسمح لها السلطات اللبنانية في حينه الاستمرار في العمل في لبنا لمتابعة الجرحى والمعوقين من ضحايا الحرب والمجازر وأصرت على طردها من البلاد بحجة عدم حصولها على تصريح للعمل رغم المحاولات الحثيثة التي بذلها الهلال الأحمر الفلسطيني من أجل بقائها

 

في المقابل وفي مناسبات عديدة كرمت من قبل المؤسسات الأهلية الفلسطينية ومن جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني والاتحاد الدولي للهلال الأحمر الدولي والصليب الأحمر على اعمالها الإنسانية لكن التكريم الذي أثلج صدرها واعتبرته بمثابة اعتراف من العالم بالفلسطينيين ومعاناتهم كان في يوم أستراليا لعام 2005 حيث منحت تقديرا وعرفانا بجهودها الجبارة وخدماتها الإنسانية الجليلة في منطقة الشرق الأوسط  وما قدمته للأشخاص ذوي الإعاقة الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين في لبنان وغزة والمناطق المحرومة وسام ” رفيق ” من الدرجة الممتازة وهو ارفع جائزة تقدمها استراليا لمواطنيها الا ان الاحتلال الإسرائيلي وقتها منعها من السفر إلى استراليا لحضور حفل تسلمها

 

المؤسف حقا انه وحتى لحظة وفاتها لم يتم تكريمها من قبل أجهزة السلطة الفلسطينية التي كرمت العديد من المطربين والفنانين ومن هم اقل منها مكانة واعتبار بأرفع الأوسمة الفلسطينية لكنها اغفلت من قدمت خدماتها الإنسانية المتواصلة منذ اثنان واربعون عام متنقله بين لبنان ومصر وفلسطين

 

الراحلة كانت تحمل شهادة الدكتوراه في التربية البدنية من أمريكا وقد انتخبت في المؤتمر الثاني عشر عضوا في المجلس الإداري لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني وقبل مغادرتها بلادها كانت تعمل محاضرة في جامعة استرالية بكلية التربية الخاصة قسم التربية البدنية وكان حلمها السفر وتقديم المساعدة لمن يحتاجها في أي دولة نامية وقد شدتها اخبار الفلسطينيين ومعاناتهم وكانت تشعر أنهم شعب مضطهد ومسلوبة حقوقه رغم تضليل الإعلام الغربي وعدم تغطيته الموضوعية واخفائه للحقائق ومحاربته لكل من ينحاز لهم

 

اللافت في قصة الناشطة كالدر انها تعاطفت مع مظلومية الفلسطينيين بشكل كبير وانحازت بقلبها وعقلها وإنسانيتها لهم قبل أن تخالطهم رغم كل ما سمعته عنهم من نعوت بانهم إرهابيون يحب عدم التعاطف معهم أو دعمهم ومساندتهم ولم تسمع لكلام ونصائح الاهل بخطورة الذهاب إلى الشرق الأوسط  وأنها تستطيع أن تقوم بواجبها هنا في استراليا حيث الأمن والرفاهية والحياة وحاجة الكثيرين للمساعدة لكنها رفضت واصرت على تحقيق رسالتها  رغم ما كانت تعلمه من صعوبات الا انها اختارت الدروب الشائكة تلبية لمشاعرها الفطرية الجياشة

 

 لنترحم معا على هذه الانسانة المخلصة والمفعمة بالرأفة والحنان ولنقف مع لوعة فراقها احتراماً وتقديرا لتضحياتها و ونحن نستذكر شجاعتها وتفانيها في خدمة فلسطين قضية الأرض والإنسان أقول بتشريف وفخر هنيئا للشعب الفلسطيني الشقيق هذه الأم الانسانة والمناضلة المعطاءة التي اختارت أن تكون واحدة منهم رغم كل التحديات والمعاناة والغدر والجحود والنكران الا انها ظلت على العهد وفية لمبادئها وانسانيتها

 

 بقي لي في الختام ان ادعو بعظيم الأمل والرجاء الزملاء الصحفيين والكتاب والإعلاميين الى تسليط الاضواء على مسيرتها المشرفة ومواقفها النبيلة في كافة وسائل الاعلام الفلسطينية والعربية والإسلامية والحرة المكتوبة والمسموعة والمرئية فهي تستحق ذلك بامتياز كأيقونة خالدة للعمل الإنساني الداعم والمناصر لحقوق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة

[email protected]

 

.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى