ضرورة الاستفادة من إمكانات سياسة الحد من الضرر المبتكرة للوصول لعالم خالٍ من الدخان

اتخاذ قرارات بشأن صياغة وإقرار مبادرات جذرية وإطار استراتيجي فاعل للحد من التدخين والسيطرة على آثاره السلبية على المدى البعيد هو مطلب هام ومحوري للصحة العامة. هذا هو تماماً ما يسعى إليه مؤتمر الأطراف العاشر COP10 لاتفاقية منظمة الصحة العالمية الإطارية لمكافحة التبغ FCTC، الذي يعد الهيئة الحاكمة للاتفاقية، والمنعقد في بنما خلال الفترة ما بين 5 إلى 9 شباط من العام الجاري 2024.

المفارقة العجيبة والمخيبة التي يشهدها هذا المؤتمر، توصية أوراقه الأساسية بمعاملة المنتجات البديلة معاملة السجائر التقليدية، وإخضاعها للتنظيم بطريقة مماثلة إن لم تكن أشد صرامة، دون أية مراعاة للفروق الجوهرية بين الفئتين وأهمها انعكاسات استهلاك الفئتين والتي تعد مبشرة في البدائل؛ نظراً لإقصائها لعملية حرق التبغ التي تقف وراء معظم الأمراض المرتبطة بالتدخين وليس النيكوتين.

هذه التوصية إنما هي خطوة إلى الوراء مع قرارات وتوجهات غير واقعية ومنطقية، تؤدي إلى تقويض مفهوم سياسة الحد من الضرر المبتكرة، وتثبيط المسار التصاعدي لنتائجها الإيجابية في تخفيض استهلاك السجائر التقليدية بدليل تجارب العديد من الدول، في الوقت الذي لا تحرز فيه السياسة التقليدية أي تقدم برغم مناداتها بالإقلاع الفوري.

وكانت سياسة الحد من الضرر التي ينظر إليها على أنها استراتيجية ناجحة في حماية الصحة العامة بالتجربة والبرهان، قد أسهمت لدى انتهاجها في ما يتعلق بمكافحة العديد من التحديات المجتمعية والصحية، في تقليل الأضرار الناجمة عن العديد من السلوكيات والعادات الخاطئة، والتي تنطوي على انعكاسات سلبية. ومن هنا، فإن الحكمة تتمثل في تطبيق سياسة الحد من الضرر على نطاق أوسع ضمن أبرز التحديات المتمثلة باستمرار التدخين التقليدي؛ بحيث يتم تبنيها كاستراتيجية مركزية يُعتدّ بها ضمن اتفاقية منظمة الصحة العالمية الإطارية لمكافحة التبغ FCTC، معززةً بعدة تدابير جريئة لتخفيض الطلب والعرض كون ذلك ضرورة لا بد منها، في ظل عدم كفاية الحالية منها.

وفي الوقت الذي تتميز فيه اتفاقية منظمة الصحة العالمية الإطارية لمكافحة التبغ بتأثيراتها في تشجيع الاستجابة العالمية لمكافحة التبغ، إلا أنه كان من الصعب إظهار الارتباط القوي والمتسق بين تنفيذ التدابير القاصرة المنصوص عليها في الاتفاقية وانتشار التدخين التقليدي، وبالتالي بقاء آثار استهلاك السجائر التقليدية السلبية، بل وازديادها.

وما يزيد من التخبط خاصة في ما يتعلق بتوحيد الجهود الفاعلة لنتائج أفضل على طريق الوصول لعالم خالٍ من التدخين، أن الاتفاقية وبالرغم من كونها لا تحظر أساليب الحد من الضرر، إلا أنها تنيط قرار انتهاجها من عدمه للدول والحكومات، مع السماح لها بإقرار كيفية تنظيم المنتجات البديلة، وهذا ما يعني الحد من الخيارات التي قد تكون أقل ضرراً وأكثر صحة أمام 1.3 مليار مدخن بالغ في أنحاء العالم ممن يتعرضون لخطر الوفاة المبكرة المتزايد، في ظل مواصلة منظمة الصحة العالمية انتهاج السياسة التقليدية.

اللافت لدى سرد كل هذه الحقائق، غياب المبرر العلمي لموقف منظمة الصحة العالمية تجاه قراراتها بشأن معاملة المنتجات البديلة ومنتجات النيكوتين بنفس الآلية التي يتم التعامل مع المنتجات التقليدية بها، مع تجاهل ضرورة اتباع نهج مختلف باختلاف الفئة بناء على تناسبه مع الفروق الجوهرية والانعكاسات والمخاطر المحتملة لكل منها. والواضح هنا، أن منظمة الصحة العالمية لا تزال بحاجة لأن تلعب دوراً قيادياً إيجابياً مع تقديم الدعم الفني الذي يقع على عاتقها للدول التي تتجه لتبني المنتجات البديلة ومنتجات توصيل النيكوتين، بما فيها السنوس السويدي، وأكياس النيكوتين، والتبغ المسخن، وتبغ المضغ، وأن تحفز الدول التي لم تتجه لها بعد لتبنيها، لا أن تقف موقف المتفرج والمحرض على حظرها، وهو ما تجلى في مباركتها للخطوة التي قامت بها الهند لدى حظر إنتاج واستيراد وتداول السجائر الإلكترونية، والمشابهة لما تقوم به 34 دولة حول العالم حالياً من الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط.

الأرقام والنتائج لدى الدول التي تبنت المنتجات البديلة على أرض الواقع، تبرهن على مدى الخطأ التي ترتكبه الهند والدول التي الأخرى عند حظر هذه المنتجات؛ حيث تزامنت الانخفاضات الكبيرة في معدل انتشار التدخين مع تبني البدائل. نيوزيلندا على سبيل المثال، شهدت انخفاضاً كبيراً في معدل التدخين اليومي بين البالغين من ما نسبته 13.3% كما هو هو الحال بين عامي 2017 و2018 إلى ما نسبته 6.8% كما هو الحالي بين عامي 2022 و2023؛ وذلك بفضل إتاحة البدائل بما فيها السجائر الإلكترونية على نطاق واسع أمام المستهلكين من المدخنين البالغين، وهو ما يشير لانخفاض بنسبة 49% في غضون 5 سنوات. في نفس الفترة، وبدعم من الحكومة ومع إجراءات تنظيمية مناسبة، ازداد التوجه نحو البدائل من قبل المدخنين البالغين يومياً بنسبة من 2.6% إلى 9.7%.

المتمعن في هذه الأرقام، سيلحظ انخفاض معدلات التدخين في نيوزيلندا بالرغم من زيادة تكاليف المعيشة، الأمر الذي يعزى لغياب أية سياسات مناهضة ومقوضة لسياسة الحد من الضرر المبتكرة لمكافحة التبغ. وعبر هذا الانخفاض يبرز ما يمكن تحقيقه من أهداف هامة تتجاوز أهداف منظمة الصحة العالمية للحد من انتشار التدخين بنسبة 30% على مدى 15 عاماً، وذلك خلال الفترة من العام 2010 إلى العام 2025. ويتضمن تشريع منع التدخين في نيوزيلندا لعام 2022 “جيلاً خالياً من التبغ”، وتخفيضاً بنسبة 90% في منافذ البيع بالتجزئة للتبغ المدخن، والتخلص الإلزامي من التبغ بالتجزئة.

وتلتزم حكومة نيوزيلندا المنتخبة في تشرين الثاني 2023 بالوصول إلى هدف القضاء على التدخين لعام 2025، عبر تقليص انتشار التدخين بنسبة 5% أو أقل بين السكان من المستهلكين البالغين، لكنها تعتزم إلغاء تشريع منع التدخين لعام 2022. ومع ذلك، ونظراً للجداول الزمنية الخاصة بالتنفيذ، فإن المخاوف من أن يؤدي هذا الإلغاء لتعريض مسار الهدف الأكبر بالقضاء على التدخين لعام 2025 لانتكاسات تبدو طافية على السطح، علماً بأن التوقعات لا تشير لأية تأثيرات لأي من التدابير الرئيسة الثلاثة قبل حلول العام 2025، فيما يمكن أن تبرز عواقب سلبية غير متعمدة أو مقصودة. واستناداً إلى التقدم المحرز مؤخراً، يبدو من المرجح أن يتم تحقيق هدف نيوزيلندا بالقضاء على التدخين عن طريق التوافق بدلاً عن الإكراه على الإقلاع، وعن طريق المزيد من الدعم للتحول إلى المنتجات البديلة.

وفي سياق متصل، فقد نجحت بلدان أخرى من ذات الدخل المرتفع في الحد من انتشار التدخين في ظل استخدام مجموعة من أجهزة توصيل النيكوتين منخفضة المخاطر لاستكمال تدابير خفض الطلب والعرض التي حددتها الاتفاقية الإطارية لمكافحة التبغ. السويد، المعروفة باستهلاك السنوس، لديها أدنى معدل انتشار للتدخين اليومي بين البالغين في العالم، والذي انخفض إلى ما نسبته 6% في عام 2022، وهي النسبة المصحوبة بانخفاض معدل الوفيات الناجمة عن الأمراض المرتبطة بالتدخين. وقد حققت النرويج نجاحاً مماثلاً في الحد من انتشار التدخين في سياق زيادة استخدام السنوس السويدي والمنتجات البديلة ومنها السجائر الإلكترونية، فيما ساعد التدخين الإلكتروني البالغين في إنجلترا على الإقلاع عن التدخين. ويرتبط الانخفاض الكبير في استهلاك السجائر في اليابان بالإقبال السريع على المنتجات البديلة التي تعمل على تسخين التبغ بدلاً عن حرقه. في المقابل، تم إحراز تقدم أقل في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل؛ حيث تكون القدرة على مكافحة التبغ وهي المصحوبة بإرادة سياسية للنهوض بتدابير مكافحة التبغ أضعف، وبالتالي القدرة على الحد من أضراره تكون أقل.

وفي الواقع، يتذرع من يناهض تبني سياسات الحد من أضرار التبغ على الرغم من الصلة الوطيدة والطردية التي تجمع بين هذه السياسة المبتكرة ومعدلات بانخفاض انتشار التدخين، بعدم القدرة في الوقت الراهن على قياس تأثير المنتجات البديلة على المدى الطويل، مقابل معرفة التأثيرات للمنتجات التقليدية كونها معروفة منذ أكثر من نصف قرن. وعلى الرغم من أن المنتجات البديلة العاملة على سبيل المثال بتقنية التبخير أو استنشاق البخار Vaping قد لا تكون خالية تماماً من الضرر، خاصة بالنسبة لغير المدخنين، إلا أن مخاطر حدوث ضرر كبير الحجم وطويل المدى من مكونات هذه المنتجات من المرجح أن تكون منخفضة، خاصة لدى مقارنتها بالأضرار الناجمة عن استهلاك السجائر التقليدية التي تعتمد على حرق التبغ وتدخينه.

أما الذريعة الثانية، فتتمثل في توافر السجائر الإلكترونية على نطاق واسع في غياب الضوابط واللوائح الكافية، والحجة أن ذلك يشجع إدمان الشباب على استهلاك النيكوتين ويمكّن صناعة السجائر الإلكترونية من التصرف بشكل غير أخلاقي. في هذا الصدد، هناك القليل من الأدلة التي تشير إلى أن استهلاك المنتجات البديلة ومنها السجائر الإلكترونية يؤدي بالضرورة إلى التحفيز على التدخين بين الشباب، وعلى الرغم من أن نسبة الشباب غير المدخنين الذين يستخدمون السجائر الإلكترونية آخذة في الازدياد، إلا أنها لا تزال عند مستوى منخفض إلى حد ما. وهنا لا بد من الإشارة إلى الحاجة إلى لوائح أكثر صرامة، بما في ذلك فرض قيود على المبيعات، وتنفيذ حملات مناسبة لتعزيز الصحة لمنع تدخين الشباب، ولكن هذه التدابير يجب أن تكون متوازنة مع الاحتياجات الصحية لكبار السن الذين يدخنون ويحتاجون إلى الدعم للإقلاع عن التدخين.

الشكوك حول دوافع صناعة التبغ لتطوير وبيع المنتجات البديلة الخالية من الدخان مع الاستمرار في توسيع أسواق التبغ في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط مفهومة، إلا أن سلوكيات المدخنين الذين لا يستطيعون الإقلاع أو لا يرغبون به، وتطلعاتهم والدوافع التي تشجعهم على التحول نحو بدائل قد تكون أقل ضرراً، أسفرت عن تطوير مجموعة من المنتجات البديلة التي يتمحور الهدف الأساس منها في تقليل الآثار الضارة الناجمة عن استهلاك التبغ والسجائر التقليدية بطريقة أكثر فعالية من الطرق التقليدية التي لم تؤت ولا يتوقع أن تؤتي أية ثمار. إن الحد من تدخين السجائر التقليدية هو الطريقة الأكثر فعالية لمنع الوفيات المرتبطة بالتبغ، كما أن الحد من أضرار التبغ هو الطريقة الأسرع والأكثر عدالة لخفض انتشار التدخين. ومن هنا، فإنه يتعين على منظمة الصحة العالمية أن تتبنى هذه الابتكارات خاصة المثبت علمياً منها، كما ينبغي للدول التي جنت فوائد سياسة الحد من الضرر المبتكرة مثل نيوزيلندا والسويد والنرويج وإنجلترا واليابان، أن تشجع البلدان المشاركة في مؤتمر الأطراف العاشر على دعم المقترحات التي من شأنها أن تقلل بسرعة من معدلات التدخين بالطرق والآليات المبتكرة. إن سكان العالم الذين يبلغ عددهم 1.3 مليار نسمة والذين سيموت نصفهم مبكراً، يستحقون هذه المبادرة.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى